إعداد: عبدالغفار الديواني
أثار الاتفاق النووي الإيراني المُبرم مؤخراً مع الغرب جدلاً كبيراً حول تداعياته، خاصةً فيما يتعلق بدور طهران في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك الموقف الغربي من القضايا والأزمات الإقليمية. ومن ثم، بدأ الحديث عن استراتيجيات التعامل الغربي مع هذه القضايا، ومحاولات إشراك إيران في إيجاد حلول وتسويات لها.
في هذا الإطار، تأتي الدراسة المُعنونة: "الغرب والشرق الأوسط بعد الاتفاق النووي"، والصادرة عن معهد الشؤون الدولية "IAI" في إيطاليا، والتي أعدها Riccardo Alcaro الباحث البارز في المعهد، حيث تتناول التداعيات المحتملة للاتفاق النووي على موقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية من الملفات الإقليمية في المنطقة، وتتطرق إلى استراتيجية إشراك إيران في التوصل إلى حلول للأزمات الإقليمية في ظل عدم قابلية تطبيق خيار الاحتواء الغربي لإيران، نظراً لتغير السياق الإقليمي المتسم بالعنف حالياً.
الجدل حول الاتفاق النووي الأخير
يشير الباحث إلى أن الاتفاق النووي الذي تم توقيعه في فيينا بين إيران ومجموعة (5+1)، قد أثار جدلاً حول دور الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط؛ فثمة توقعات أن هذا الاتفاق قد يُمهد الطريق إلى مزيد من التعاون مع إيران بشأن القضايا المشتركة، وفي مقدمتها الحرب ضد "داعش".
على الجانب الآخر، ثمة مخاوف - خاصة من قِبل الدول العربية - من أن يؤدي الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران، إلى تشجيع المتشددين في طهران إلى اتباع سياسات أكثر عدوانية.
ويرى الباحث أن الاتفاق النووي مستقل عن الديناميات الكامنة وراء الصراعات المتعددة في الشرق الأوسط، ومنها الصراع السني – الشيعي، والصراع بين القوى الإسلامية والعلمانية، والتوترات الإثنية. ويؤكد الكاتب أن إيران باعتبارها دولة ذات أغلبية شيعية ولها أيديولوجيتها الإسلامية الخاصة، تشارك في كل هذه الصراعات، سواء مباشرةً أو من خلال وكلاء لها. وبالتالي، تعد طهران شريكاً مؤثراً في الأزمات السورية والعراقية وغيرها، بشكل لا يمكن تهميشها، ولكن يظل البديل الوحيد هو التأثير على سلوكها.
ويرى الباحث أن التوصل إلى حلول وسط هو أمر ممكن إذا كان مدعوماً بالفطنة الدبلوماسية، مع وجود استراتيجية وإرادة سياسية. وفي المقابل، نوه الباحث إلى أنه يتعين على الولايات المتحدة وأوروبا أن يكونوا على استعداد للرد بقوة على أي تحركات إيرانية تحرض على الفوضى، بما في ذلك تعزيز مصادر الردع للحلفاء الإقليميين.
الاتفاق النووي وسياسة إيران.. لا تغيير
تشير الدراسة إلى أن ثمة شيئاً واحداً متفق عليه من قبل المعارضين والمؤيدين للاتفاق النووي الإيراني، وهو أن الاتفاق لن يحول الولايات المتحدة وإيران إلى أصدقاء بين عشية وضحاها، وذلك في ظل عدم تقبل الأجواء في كلا البلدين لذلك الأمر، سواء من قِبل الرأي العام أو القوى السياسية أو الكونجرس، وأيضاً في ظل الفجوة الأيديولوجية والجيوسياسية الضخمة بين واشنطن وطهران.
وتُذكّر الدراسة بأن الرئيس الإيراني "حسن روحاني" كان قد وعد خلال حملته الرئاسية في عام 2013، بكسر عزلة بلاده ورفع العقوبات عنها دون التخلي عن إنجازاتها النووية، وهو ما تحقق بالفعل، وإن كان على حساب قبول قيود صارمة على البرنامج النووي لمدة 10-15 سنة. كما قام "روحاني" بتحييد المعارضة أثناء المحادثات النووية من خلال كسب دعم المرشد الأعلى "علي خامنئي" صاحب الكلمة العليا في الأزمة النووية.
ويرى الباحث أن إدارة "خامنئي" للمف النووي كانت متأنية، حيث أعرب عن تأييده للمفاوضين النوويين، بيد أنه عبَّر أيضاً عن شكوكه بشأن قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بالتزاماتها، ما يجعل النظرة إلى اتفاق فيينا باعتباره انتصاراً ليس فقط لـ"روحاني"، ولكن أيضاً للنظام نفسه، خاصةً بعد الترويج بأن الاتفاق النووي لن يؤثر على السيادة الإيرانية. وبالتالي، فهذه الصفقة لن تؤثر كثيراً على السياسة الخارجية الإيرانية، ويؤكد ذلك إشارة المرشد الأعلى علناً إلى أن الاتفاق لن ينهي العداء الإيراني للولايات المتحدة. والأهم من ذلك، أنه شدد على أن طهران ستواصل دعم حلفائها في العراق وسوريا ولبنان والبحرين وفلسطين واليمن، خاصةً في ظل مسؤولية "الحرس الثوري الإيراني"- المعروف بتشدده- عن الأنشطة الإيرانية في الخارج.
افتراضات خاطئة بشأن الهيمنة الإيرانية
يرى الباحث أن الاعتقاد السائد من قِبل الدول العربية وإسرائيل بأن إيران تسعى للهيمنة الإقليمية، لم يعد تفكيراً واقعياً، ويبرهن على ذلك بالآتي:
1- لا تمتلك إيران القوة الناعمة أو الصلبة، لتحقيق تلك الهيمنة والحفاظ عليها. ويُدلل الكاتب على ذلك بمقارنة ميزانيات الدفاع والتسلح بين إيران من ناحية، وكل من دول الخليج وإسرائيل من ناحية أخرى، والتي تظهر التفوق الخليجي والإسرائيلي في الكم والنوع.
2- لاتزال الولايات المتحدة والدول الأوروبية تعمل على نشر موارد عسكرية واسعة النطاق في المنطقة، وهذا دليل ملموس على التزامها بأمن حلفائها ووضع إيران تحت المراقبة. ومن ثم، فإن ذلك يجعل فرضية أن طهران تسعى للهيمنة الإقليمية غير مرتبطة بالواقع.
استراتيجية الانخراط Strategy Engagement
يرى الباحث أن القراءة المتأنية للأزمات في الشرق الأوسط والخليج، تبرز وجود ثلاثة تحديات، وهي انهيار سلطة الدولة والتشرذم الطائفي والعرقي، وانتشار الجماعات الجهادية مثل "القاعدة" و"داعش"، والتوتر والتنافس بين الفاعلين الإقليميين وكذلك فاعلين من خارج الإقليم. وبالتالي، قد تكون إيران جزءاً من المشكلة في بعض هذه القضايا، ومع ذلك فهذه المشكلة لا يمكن التخلص منها بمجرد التمني.
كما أن خيار "الاحتواء" وتقويض النظام الإيراني من الداخل، لم يعد مناسباً، فهذا النهج يمكن أن يعمل ربما في بيئة إقليمية أكثر استقراراً. لكن المنطقة قد تراجعت الآن إلى هذا المستوى من انعدام الأمن والعنف والاضطرابات بصورة أكثر راديكالية. ومن ثم، يشير الواقع إلى أن "الانخراط" engagement هي الخيار الأكثر حكمة.
وفي هذا الإطار، توضح الدراسة أن المساعدة في تطبيق خيار "الانخراط" لابد أن يأتي من جانب الدول الأوروبية، لأن الولايات المتحدة رغم امتلاكها الجهود الدبلوماسية والعسكرية اللازمة في هذا الصدد، إلا أن الاستقطاب الداخلي في إيران يجعل من الصعب للغاية على إدارة "أوباما" متابعة مثل هذه الاستراتيجية وحدها. كما أنه من خلال الحصول على الدعم الصيني والروسي، يمكن للأوروبيين النجاح وإعطاء الإدارة الأمريكية المزيد من الخيارات للتعامل مع إيران.
ويعرض الباحث كيفية تطبيق استراتيجية "الانخراط" مع إيران في أزمتي سوريا والعراق، فضلاً عن العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك كما يلي:ـ
1- العراق:
- تحتاج الولايات المتحدة إلى تكثيف الجهود العسكرية لمحاربة "داعش" بشكل أفضل، وأيضاً للتغلب على الانطباع بأن طهران تقوم بدور أكبر من واشنطن.
- يجب على الحكومة الأمريكية وحلفائها في أوروبا أن يتقدموا الحملة ضد تنظيم "داعش"، مع ضرورة الترويج إلى سياسة الإدماج.
- يتعين استمرار توجيه الجهود الدبلوماسية نحو قضايا، مثل عمليات نقل الأسلحة، والمساعدات المالية، والصفقات التجارية، ودعم جميع أشكال تقاسم السلطة بين الجماعات العرقية والدينية في العراق.
- يجب على المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين تمرير رسالة مفادها أنه على الرغم من عدم قبول الأهداف الإيرانية التوسعية، بيد أن ثمة توافقاً غربياً - إيرانياً على المخاوف الأمنية الإيرانية في العراق. وبالتالي، فإن وجود عراق مستقر لن يكون أرضاً خصبة للمتطرفين السنة، وهو ما يخدم الصالح الإيراني لدعم الأجندة الشاملة التي يروج لها الغرب.
2- سوريا:
- يجب على الغرب إشراك طهران في حوار حول سبل الحد من العنف، من خلال وقف إطلاق النار، وزيادة المساعدات الإنسانية، ودعم الدول التي تستضيف ملايين اللاجئين السوريين.
- إشراك طهران في نقاشات حول السيناريوهات المحتملة لما بعد "بشار الأسد". فالإيرانيون يعملون على بناء قاعدة قوية لهم في سوريا من خلال تكوين الميليشيات المدربة من إيران، وبالتالي قد تكون طهران مستعدة لترك "الأسد" بعد استمرار ضعفه.
- يمكن أن تزيد واشنطن الضغط على إيران و"الأسد"، من خلال تكثيف دعمها لقوى المعارضة العلمانية، والسماح لتركيا وقطر والسعودية لمواصلة دعم الجماعات السنية المتمردة بشرط تخليها عن العناصر الأكثر راديكالية. وذلك من شأنه التقليل من المطالب الإيرانية، والتركيز على محاربة "داعش".
3- الخليج:
- يجب الحد من حرب الروايات المفترضة من قِبل إيران ومنافسيها من الدول العربية السنية (وأيضاً إسرائيل وربما الولايات المتحدة نفسها) ووضعها جانباً. فبينما ترى الدول العربية أن إيران في وضعية الهجوم في سوريا والعراق وأماكن أخرى، يدعي الإيرانيون أنهم يقاتلون من أجل الحفاظ على أمنهم، وعلى مصادر الردع في العراق ولبنان (عبر سوريا).
- يجب استغلال التطمينات الأمريكية والغربية لدول مجلس التعاون الخليجي، سواء الالتزام بأمنها أو مبيعات الأسلحة الفرنسية والبريطانية، في بداية قبول دول الخليج بالانفتاح الغربي مع إيران.
- تدشين حملة دبلوماسية تهدف إلى الترويج أن الأمن في الخليج لن يتحقق حتى تصل إيران ومنافسوها الإقليميون إلى تسوية بنَّاءة.
- إقامة منتدى أو حوار خليجي مُوحد يضم إيران، بحيث يمكنه في البداية معالجة قضايا أقل أهمية، مثل التجارة، وحماية البيئة، وتطوير مشروعات البنية التحتية المشتركة. كما أن هذا المنتدى يوفر أيضاً منصة للتعامل مع قضايا السياسة العليا بشكل تعاوني، على أن يناقش هذا المنتدى مستقبل العراق وسوريا والأمن البحري، وتحديد قواعد الحل السلمي للنزاعات في مياه الخليج، وتشجيع التوصل إلى تفاهم بشأن معاملة الأقليات الدينية والعرقية داخل الحدود الوطنية، وإطلاق المفاوضات حول منطقة خالية من الأسلحة النووية.
ختاماً، ترى الدراسة أن استراتيجية "الانخراط" مع إيران تفترض فتح قنوات اتصال، وتمهيد الطريق لإجراء حوار بشأن الأمن في منطقة الخليج. وتتحقق هذه الاستراتيجية بشكل تدريجي، مع التركيز أولاً على القضايا المُلحة على المدى القصير، ثم التطرق إلى المخاوف الاستراتيجية على المدى الطويل.
* عرض مُوجز لدراسة: "الغرب والشرق الأوسط بعد الاتفاق النووي"، والصادرة في يوليو 2015 عن معهد الشؤون الدولية "IAI" في إيطاليا.
المصدر:
Riccardo Alcaro, The West and the Middle East after the Iran Nuclear Deal, (Roma, Istituto Affari Internazionali "IAI", July 2015).